لأول مرة منذ قرن.. الحرب تُخرج مشروع الجزيرة من دائرة الإنتاج وتُفقر المزارعين

رصد: رقراق نيوز
تسبب النزاع المسلح في السودان في خروج مشروع الجزيرة الزراعي، أكبر مشروع مروي بإدارة واحدة في أفريقيا، من دائرة الإنتاج لموسمين متتاليين، وذلك لأول مرة منذ تأسيسه عام 1925، نتيجة مباشرة للأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والموارد الزراعية بعد سيطرة قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة في ديسمبر 2023، قبل أن تستعيد القوات المسلحة السودانية السيطرة عليها في يناير 2024.
تأسس المشروع في عام 1925، وتبلغ مساحته نحو 2.2 مليون فدان، خرجت غالبيتها من دائرة الإنتاج بعد سيطرة قوات الدعم السريع على معظم ولاية الجزيرة وسط السودان في ديسمبر 2023، قبل أن تتمكن القوات المسلحة السودانية من استعادة السيطرة على الولاية في يناير الماضي.
وتعرض مشروع الجزيرة، بما في ذلك بنيته التحتية من قنوات ري، وورش، ومحالج، ومخازن، لدمار واسع وتخريب ونهب، مما فاقم من التدهور والإهمال الذي كان يعاني منه المشروع حتى قبل اندلاع الحرب.
وقال علي أحمد إبراهيم، الأمين العام لمجلس إدارة مشروع الجزيرة، في حديثه لـ”سودان تربيون”، إن إدارة المشروع قدّرت الخسائر الأولية بنحو 15 إلى 20 مليار دولار، مرجحاً أن تزيد هذه الأرقام لاحقاً. وأوضح أن قوات الدعم السريع نهبت أكثر من 50 جراراً بكل ملحقاتها، بالإضافة إلى أكثر من 50 سيارة كانت مخصصة لمفتشي الغيط، الذين يستخدمونها في تنقلاتهم بين مكاتب المشروع لمتابعة العمليات الفلاحية.
وأكد أن أعمال التخريب والنهب لم تقتصر على ممتلكات المشروع فحسب، بل امتدت لتشمل مخازنه وورشاته، مشيراً إلى تورط عناصر من قوات الدعم السريع في عمليات النهب، إلى جانب تشجيعهم للصوص على سرقة ما تبقى من أصول المشروع.
وفي ولاية الجزيرة، التي يعتمد 80% من سكانها، البالغ عددهم نحو 6 ملايين نسمة، على الزراعة، تتجلى حجم الكارثة بشكل أكبر، إذ تعرضت قطاعات واسعة للتجريف والدمار، بما في ذلك قطاعات البساتين، والدواجن، والماشية.
ووفقاً لتقرير حديث صادر عن وزارة الإنتاج والموارد الاقتصادية بولاية الجزيرة – حصلت عليه “سودان تربيون” – تُعد الولاية من أهم المناطق الزراعية في البلاد، حيث تمتلك نحو 6.2 مليون فدان من الأراضي الزراعية التي تنتشر فيها مشاريع الزراعة المروية والمطرية، والبساتين، والدواجن، والمراعي على نطاق واسع.
وذكر التقرير أن الحرب أدت إلى خروج مليون فدان من أصل 1.5 مليون فدان في القطاع المطري من دائرة الإنتاج، إضافة إلى تلف 150 ألف فدان من أصل 200 ألف فدان في القطاع البستاني، حيث كانت الولاية من المصادر المهمة لتصدير الفاكهة والخضروات، خاصة الموز. كما تسببت الحرب في تجريف كامل لقطاع الدواجن بنسبة 100%، وتدمير 80% من قطاع الماشية، بالإضافة إلى نهب نحو 90% من الآليات والمعدات الزراعية.
ولم يقتصر النهب على ممتلكات المشروع فحسب، بل طالت أيادي جنود قوات الدعم السريع ممتلكات المزارعين أنفسهم. ويروي المزارع بكري معاوية، من مكتب “سييد فارم” القريب من بركات، أن عناصر من الدعم السريع نهبت جراره وسيارته تحت تهديد السلاح، ثم عادت لاحقاً ونهبت محاصيله المخزنة، متهمة إياه بالانتماء إلى “الفلول” – في إشارة إلى رموز النظام السابق.
ويؤكد معاوية أن قنوات الري أصبحت لأول مرة في حياته جافة بلا مياه، مضيفاً أنه رغم الظروف القاسية بدأ في تجهيز جزء من أراضيه باستخدام موارد شحيحة في محاولة للحاق بالموسم الصيفي، مع الأمل في التمكن من زراعة مساحات أكبر في الموسم الشتوي المقبل.
وتعرضت عشرات المخازن المنتشرة على امتداد مشروع الجزيرة في مناطق مثل الباقير، والحصاحيصا، ومارنجان، لأعمال نهب وتخريب وحرق. إلا أن حجم الأضرار التي لحقت بالمخازن العمومية في مارنجان – التي تُعد مركزاً رئيسياً لتوفير التقاوي، والأسمدة، وقطع غيار المحالج – يبدو أكثر فداحة، ولم يتم حتى الآن حصر خسائرها بالكامل.
وقال الفاتح حاج بابكر، مسؤول إدارة الإعلام والعلاقات العامة في مشروع الجزيرة، إن المخزن العمومي للأسمدة والمبيدات في مارنجان تعرّض للنهب الكامل قبل أن يتم إحراقه، وسُرقت كافة مكوناته، بما في ذلك هيكله الحديدي، ولم يتبقَ منه سوى بعض الأعمدة التي لم يتمكن اللصوص من انتزاعها، وقد شوهتها النيران.
أما مخزن قطع الغيار العمومي الخاص بالمحالج، والذي يعود تاريخ إنشائه إلى نحو مئة عام، فقد تعرض لحريق ضخم أدى إلى انهياره بشكل كامل حتى لامس سقفه الأرض. كما نُهبت بالكامل مخازن التقاوي في كل من بركات ومارنجان، ولم تسلم هياكلها من التخريب.
حتى مقر الخزنة الرئيسية لمشروع الجزيرة في بركات، التي تُعد من الخزن الأثرية التي استُجلبت من بريطانيا مع بداية تأسيس المشروع، تعرضت لعمليات كسر ونهب وتخريب واسع.
ورغم حجم الدمار الهائل والشلل الذي أصاب المشروع نتيجة الحرب، بدأت تظهر محاولات متواضعة لإعادة إحياء المشروع وسط نقص شديد في التمويل والإمكانات. وضمن هذه المحاولات، شرعت إدارة المشروع في استجلاب نحو 20 جراراً زراعياً بملحقاتها لتحضير الأراضي للزراعة، والعمل على توفير التقاوي الضرورية للموسم الزراعي المقبل.
ورغم المصاعب والتحديات، فإن هذه الجهود تُعد بصيص أمل في مساعي إنقاذ مشروع الجزيرة، الذي ظل لعقود عماد الأمن الغذائي في السودان، قبل أن تنهكه الحرب وسنوات من الإهمال وسوء الإدارة.