حميدة أبو عشر.. الابتسام والانسجام والحسن لك، ولنا ظلم المهجة الحيرى

توثيق: خضر مسعود

الشاعر حميدة أبو عشر، واسمه حميدة أحمد عثمان، وُلد بمدينة أبو عشر عام 1921م على الأرجح، حيث نشأ وترعرع هناك وتلقي تعيلمه الأولي فيها. والتحق بالمدرسة الإنجيلية بالخرطوم، لكنه لم يستمر فيها بسبب نشاطه السياسي ضد الحكم الإنجليزي، وهو ما لم يتقبله المعلمون هناك. بعد ذلك واصل دراسته في معهد أم درمان التعليمي، ثم انتقل إلى ود مدني حيث تم تعيينه في وزارة الأشغال، وكان نجاراً ماهراً في تصميم معدات إجلاس الطلاب، مما أدى إلى نقله إلى مدرسة حنتوب الثانوية.

شاعر الصنعة والإحساس

تدفقت شاعريته في وقت مبكر، وهو شاعر رقيق يكتب بإحساس يتدفق رقة ورهافة. يردد الكثيرون أغنياته دون علمهم بكاتب هذا الإبداع، وقد عبّر عن حزنه ولوعته على فراق مدرسة حنتوب الثانوية . وتُروى الحكاية أن حميدة أبو عشر كان يعمل نجاراً بمدرسة حنتوب في الفترة من 1943م وحتى 1947م، وكانت في أوج ازدهارها ومجدها.

وعند افتتاح مدرسة الحصاحيصا الثانوية القديمة، ونظرًا للحاجة إلى حرفيين لتجهيز الكراسي والأدراج للتلاميذ الجدد، تم نقل “حميدة” إليها. فتدفقت مشاعره شعراً وهو يودّع “حنتوب” في قصيدة أبدع في غنائها الكاشف.

وداعاً جنتي الغنا
وداعاً معبدي القدسي
طويت الماضي في قلبي
وعشت على صدى الذكرى
وهذا الدمع قد يُنبئ
بظلم المهجة الحيرى

كتب بعدها العديد من الأغنيات الجميلة، منها: “الحجل بالرجل، غضبك جميل زي بسمتك، رمز الضياء، محبوبي لاقاني”.

الشاويش والحجل بالرجل

ووفقاً للمؤرخين، كتب أغنية الحجل بالرجل أثناء اعتقاله من قِبل سلطات الحكم البريطاني بسبب نشاطه السياسي ضمن عدد من قيادات النقابات. تم نقله من سجن كوبر إلى سجن الأبيض عبر القطار، فطلب من الشاويش “أحمد جبران” ورقة وقلماً وكتب:

الحجل بالرجل
يا حبيبي سوقني معاك
الليلة العزول
جاب لي خبر بالسو
نسام البحر
قلب الخبر بلو
قال لي دام هواك
يا حبيبي مهما تسو

وقد كانت النقابات تأمر قواعدها باستقباله في طريق القطار بالهتافات والهدايا، مما أثار فضول الشاويش، الذي كان الاسم المسجل لديه هو “محمد”. فأخبره حميدة بحقيقته، وأنه من ضمن منفذي إضراب 1952م. فاحترمه الشاويش، وفك عنه الجنزير، ونشأت بينهما علاقة طيبة.

وعندما وصل الأبيض، طلب من الشاويش أن يحتفظ له بالهدايا ويحضّر له الشاي والقهوة يوميًا. وبعد إطلاق سراحه، تزوج الشاعر حميدة من ابنة أخ الشاويش، سعدية محمد جبران، فأنجب منها: الأمين، ابتسام، هدى، واستقر هناك حتى وفاته في 1955م.

غضبك جميل زي بسمتك

يروي عنه ابن أخيه الشبلي محمد علي، أنه ذات يوم كان جالسًا في مقهى جورج مشرقي بالخرطوم، فجاءت فتاة قبطية وظنت أنه ينظر إليها، فقالت له: “مالك بتعاين لي؟” فكتب قصيدته التي قال فيها:

على كل حال شكلك بديع
غضبك جميل زي بسمتك
حكم الغرام بتذللي
وحكم الغرام بتدللك
الابتسام والانسجام والحسن لك
والاشتياق والاحتراق والوجد لي
عجباً تكون قاسي ووديع
شكلك بديع
غضبك جميل زي بسمتك

غنّاها الفنان عبد الحميد يوسف، والذي التقى معه كذلك في أغنية رمز الضياء التي يقول مطلعها:

رمز الضياء
أنت الحياة
محبوبي يا كل الجمال
رمز الضياء
يا سمى البدور معنى وصفه
وروح النسيم رقة وصفا
أنا في معبد هواك
رتلت مزمار الوفا

محبوبي لاقاني

ومن زهرات حميدة التي غناها الكروان حسن عطية، وتعد من عيون الغناء السوداني، ورددها لاحقًا الفنان كمال ترباس:

محبوبي لاقاني
وببسمة حياني
جذب الفكر حسنه
جهر العيون نوره
بعد اشتياقي الطال
فاجأني بظهوره
شخصت في حسنه
وأصبحت مسحوره
سبحت .. كبرت
هللت بحياته
بكل إحساسي
رديت تحياته
شكيت له آلامي
وأمالي وأحلامي
بادلتو بشعوري

 

ظلموني الأحبة .. بين حميدة أبو عشر وأبو مدين التلمساني

التقى حميدة أبو عشر مع عثمان حسين في واحدة من إلياذات التي تغنى بها “أبو عفان”، وأبدع في نظمه حميدة، وهي أغنية ظلموني الأحبة، التي تحاكي في معناها ووجدانها ما قاله الشاعر الأندلسي المتصوف أبو مدين التلمساني في إحدى قصائده الشهيرة.

يقول حميدة:

ظلموني الأحبة … في شرع الأحبة
لما قلبي ليهم … أخلص وحبّه
الأحباب تجنّوا … في الأحكام وجاروا
بقيود المحبة … ملكوني وتواروا
لي عيني أشكو … ظلموني وتشكوا

ويُقابلها قول أبو مدين التلمساني:

وأوصيتموني لا أبوح بسرّكم
فباح بما أخفي تفيض أدمعي

ولما فنى صبري وقلّ تجلّدي
وفارقتني نومي وحُرّمت مضجعي

أتيت لقاضي الحب قلت أحبّتي
جفوني وقالوا أنت في الحب مدّعي

وعندي شهود للصبابة والأسى
يزكون دعواي إذا جئت أدّعي

سهادي ووجدي واكتئابي ولوعتي
وشوقي وسقمي واصفراري وأدمعي

ويُلاحظ التشابه الكبير في البناء الشعري والوجداني بين النصين؛ فكلاهما يستبطن الألم الناتج عن خذلان الأحبة، ويعرض تجربة الحب بوصفها محاكمة روحية وعاطفية، فيها “قاضٍ” و”مدّعى عليه” و”شهود” هم الدموع والسهر واللوعة.

ويبرع حميدة أبو عشر، على غرار شعراء التصوف، في تحويل المعاناة الشخصية إلى خطاب جمالي يجمع بين الشكوى، والعشق، والتسليم، مما يضفي على أغنياته بعدًا إنسانيًا عميقًا، يجعلها تتجاوز حدود الزمان والمكان لتستقر في وجدان السامعين.

 

ختامًا

ما يميز الشاعر حميدة أبو عشر عن غيره أنه من الشعراء “الصنائعية” الذين أبدعوا في كل الحِرَف، أولها الغناء. رغم قلة إنتاجه الغنائي، إلا أن ما كتبه حميدة أبو عشر ترك أثرًا خالدًا في وجدان الشعب السوداني. ويظل من القلائل الذين جمعوا بين الصنعة والموهبة، وبين الإحساس السياسي والوجداني، ليسطّروا قصائدهم على ورق الزمن لا في كتب الشعر فقط.