التجاني سعيد .. من “قلت أرحل ومن غير ميعاد” إلى براحات الزهد

توثيق: رقراق نيوز
الأديب والمؤلف والشاعر والباحث السوداني التجاني سعيد عالم قائم بذاته، مليء بالمعرفة والفكر والثقافة، مرهف الحس بليغ التصوير ينتقي كلماته بإتزان عالم وحرفة فنان، كتب التجاني أغنيتين لحنهما وأداهما فنان أفريقيا الأول الموسيقار محمد عثمان وردي، وهما “من غير ميعاد وقلت أرحل” وصل من خلالهما إلى وجدان الشعب السوداني من أوسع الأبواب.
قلت ارحل
اسوق خطواتى من زولاً نسى الإلفة
أهوّم ليل .. أساهر ليل
أتوه من مرفأ لى مرفأ
أبدّل ريد بعد ريدك
عشان يمكن يكون أوفى
التجاني سعيد لم يكتب شعراً غنائياً سوى تلكم الأغنيتين، كتب عدد من القصائد تم نشرها في ديوانه “قصائد برمائية” وهو الديوان الوحيد الذي نشر له بعدها زهد الشعر وأتجه الى الدراسات الفلسفية والبحث العلمي.
ويقول التجاني في إجابة على زهده للشعر أو انه كان مرحلياً في حياته في حوار أجرته “مجلة العربي” – أجدني أردد دائمًا أن الملكة الشعرية لا تتبدل، ولا تتغير، ولا تشيخ، يدلك على ذلك شعر المبدعين من المعمرين ممن تخطوا المائة مثل دريد بن الصمة وعمرو بن قميئة ولبيد وحسان بن ثابت وغيرهم، والملكة تنضج وتتوهج بكثرة المعارف والتجارب وتزداد قوة وعمقًا بمرور الوقت، وهي ليست مثل المنح أو المواهب الأخرى التي تعتمد على البنية الجسمانية والأداء الحركي كما في المناشط الرياضية المختلفة مثلًا، فأصحاب هذه المواهب تتعطل قدراتهم بضعف الجسد وشيخوخته.
وخلاصة القول أن الشعراء يظلون في عطائهم الشعري حتى الموت، أو حتى وصول الذاكرة إلى نهاية عمرها الافتراضي، وما يجعل البعض من الشعراء غير قادرين على الكتابة وعلى مواصلة الإبداع أمر نفسي بحت، مصدره انعدام الرغبة في الكتابة أصلًا لعدم جدواها عنده أو لعدم وجود محرضات عليها، وقد عبر عن ذلك أبو اسحق إبراهيم الغزي بقوله:
قالوا هجرت الشعر قلت ضرورة
باب الدواعـي والبواعـث مغلــق
خلــت الديار فلــا كــريم يُرتجــى
مـنه النــوال ولا ملــيح يعشـــق
وقال آخر:
هجرت الشعر حينًا لأنه تولى
برغــمي حــين ولى شــبابيا
وأنا واحد من الذين توقفوا عن كتابة الشعر من زمن بعيد، وقد انصرفت نفسي عنه بقوة رغم بدايتي الموفقة فيه، ساعد على ذلك تشتتي المعرفي وإخفاقاتي الوجودية المتوالية، وقد كنت أندهش من تدفق شاعرية أقراني من الشعراء أمثال محجوب شريف والدوش والقدال ومحمد نجيب وعالم عباس وعبدالقادر الكتيابي وغيرهم، وكنت أتساءل من أين جاء هؤلاء الأصدقاء بهذا المزاج الشعري العالي، وأذكر مرة أنني قلت لصديقي الشاعر محجوب شريف مداعبًا (أنا لا أحسدك على شعرك، ولكني أحسدك على رغبتك في كتابته).
ويواصل في وصف فقدان البواعث المحرضة لقول الشعر .. وزاد في انطفاء الوهج الروحي الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها الناس في بلادي، والانحدار الفكري الذي يكتسح العالم يومًا بعد يوم بسبب ثورة الاتصالات المرعبة، وبالرغم من كل هذا الدخن الذي تعيشه الذاكرة فقد تهجم علي النفس أحيانًا نوبات شعرية غير متوقعة فتتحول إلى همهمات ملحة يضيق بها الصدر، وقد تجد أحيانًا طريقها للبوح، وأنا أسمي هذه الحالة (فجة الموت الفنية).
قلت أرحل
حينما تغني وردي بأغنية قلت أرحل في عام 1971 وكانت ثاني قصيدة يغنيها للتجاني سعيد ذاع صيته واعتقد البعض ان الاغنية سياسية رمزية مازاد شهرته وقادته الى المعتقلات، ويقول الشاعر عن القصيدة عندما قدم وردي القصيدة الثانية «قلت أرحل» عقب انقلاب يوليو الشيوعي الفاشل على الرئيس نميري سنة 1971، وقصة ذلك أن وردي اعتقل ضمن مؤيدي الحركة وأودع السجن بعد نجاته من الإعدام، وفي السجن قرأ وردي هذه القصيدة في إحدى الصحف اليومية التي كانت تدخل إليه سرًا، وقد صادفت هوىً في نفسه فصاغ لها لحنًا ساحرًا بهتافية جعلتها أقرب للرمزية السياسية، ولما أفرج عن وردي وخرج من المعتقل قدمها للناس فوجدت رواجًا كبيرًا لا حد له باعتقاد أنها أغنية سياسية معارضة، وذاع صيتي أنا بين الناس، وأعترف بأن الفنان محمد وردي – رحمه الله – بتقديم هاتين القصيدتين قد أتاح لي حظًا كبيرًا من الشهرة وأنا طالب لم أتجاوز الـ 18 عامًا.
رحلت وجيت
فى بعدك لقيت
كل الارض منفى
عيونك زى سحابة صيف
تجافى بلاد وتسقى بلاد
وزى فرحاً بشيل منّى الشقا ويزداد
وزى كلمات بتتأوه
تتوه لمّن يجى الميعاد
وزى عيداً غشانى وفات
وعاد عمّ البلد أعياد
وزى فرح البعيد العاد
بدون عينيكِ بصبح زول
بدون ذكرى وبدون ميلاد
رحلت وجيت
فى بعدك لقيت
كل الارض منفى
زمان الفرقة والتجريح بسيبو
بسيبو عشان تشيلو الريح
بسيبو عشان صحيح
الذكرى بتتوه عمرنا صحيح
وانتِ معاى لابندم
ولابقضى العمر تبريح
اصلو العمر شوقاً كان
وصبراً كان وحزناً كان
فسيح وفسيح
اصلو العمر كان
درباً مشيتو كسيح
وكان غرساً
سقيتو بكاء
وقبضتّ الريح
رحلت وجيت
فى بعدك لقيت
كل الارض منفي.
أما أغنية “من غير ميعاد” حينما غناها وردي كان الشاعر فى السنة النهائية بالثانوى وقد وصلت هذه الأغنية للأستاذ محمد وردى عن طريق الصحف فقد قام بنشرها والتقديم لها الشاعر محمد يوسف موسى .
ويقول التحاني في وصف احساسه بقبول وردي لقصيدته “عندما وصلنى خبر قبول الأستاذ وردى لهذه الأغنية لم أصدق ولذلك لم أسع لمقابلته أو التعرف إليه ولم يتم ذلك إلا بعد أن قدمها وفى أول لقاء بيننا أول كلمة وجهها لى كانت : “لو كنت عارفك شافع ما كنت غنيت ليك”، لهذه الأغنية وقع خاص فى قلبى لأنها هى التى قدمتنى للناس وبها استطعت أن أجلس على منصة واحدة مع كبار شعراء وردى أمثال إسماعيل حسن والفيتورى وصلاح أحمد إبراهيم وبقية هذه الكوكبة الرائعة وفى أول لقاء بعد ظهور الأغنية مع الأستاذ الشاعر إسماعيل حسن عانقنى بشدة وقال لى كلمات كلها تشجيع ودفع إلى الأمام فقد كان طيب النفس جميلا لأبعد الحدود.
ويقول التجاني عن تجربته مع وردي وفى مرة ذهبت إلى نادى الفنانين سابقا لمقابلة الأستاذ وردى فوجدته جالسا مع دهاقنة الغناء السودانى الكاشف وأحمد المصطفى وصلاح بن البادية وقدمنى لهم الأستاذ بقوله هذا شاعر أغنيتى الأخيرة فالتفت إلى الكاشف وقال (ما شاء الله) وقال نحوها أحمد المصطفى والتفت إلى صلاح بن البادية وقال : “بس ما تخلى وردى يحتكرك زى ما إحتكر إسماعيل حسن” فى إشارة منه للتعامل معه ، لقد ظلت وستظل هذه الجلسة من أجمل ذكرياتى على الإطلاق ولن تغادر ذاكرتى ما حييت.
من غير ميعاد
و اللقيا أجمل في الحقيقة
بلا إنتظار
صحيتي في نفسي الوجود
و رجعتي لعيوني النهار
،،،
كل الطيوب الحلوة
يا مولاتي و الجيد الرقيق
و اللفتة و الخصل
اللي نامت فوق تسابيح البريق
و خطاكي
و الهدب المكحل
و فتنة التوب الأنيق
في لحظة مرت كالظلال
يعبر رؤاي إحساس عميق
فتحتي جرح الليل عزا
من صمتي ما قادر أفيق
،،،
لو مرة بعدك
يا زمان الغربة تجمعنا الصدف
أنا كيف أعود
من طيبة أول نظرة
في الدار منكسف
واااااااااااااااااا
وا ضيعة الوتر
اللي ما غنيت معاهو و لا عزف
من صدفة عابرة بلا سلام
قلبي الغريب في الهم نزف
يا ريتني ما شفتك ربيع
و لا كان يلازمني الأسف
،،،
ضااااااااع
أنا مني ضاع الكلام
أنا مني ضاع ضاع الكلام
ماتت حروف اللقيا قبال أهمسها
و الله ما نامت محاسنك لحظة
لا الجـــرح إتـنـســـــى
لي الليلة ما وشوش نسيم
في روضو ما غرد مساء
لي الليلة ما سافر عبير
في الطيب يغازل نرجسة
لي الليلة يا حبي الكبير
في حرقة لافيني الأسى
صحيتي في نفسي الوجود
و رجعتي لي عيوني النهار