الدوش أكثر من ربع قرن على الرحيل .. وسحابات الهموم تتلفحنا ونسأل عن بلد رايح

توثيق: رقراق نيوز
عمر الطيب الدوش هو شاعر ومسرحي غنى للوطن والحبيبة وأجج النضال في قلوب شباب الثمانينات تغنى له عدد من الفنانين غنى له مصطفى سيد أحمد (سحابات الهموم) والفنان محمد وردي (الود.. والحزن القديم.. وبناديها وبلد رايح) والفنان حمد الريح بأغنية (الساقية) وأغنية (سعاد) غناها الفنان عبد الكريم الكابلي.. تمرعلينا اليوم العاشر من أكتوبر الذكرى السادسة والعشرون على رحيله حيث انتقل في عام 1998م.
ولد عمر الطيب الدوش في مدينة شندي 1948م تخرج في معهد الـموسيقى المسرح قسم المسرح – عام(1974) وهي أول دفعه تتخرج في الـمعهد ومن زملائه هاشم صديق وإسحاق الحلنقي، وصلاح الدين الفاضل، وناصر الشيخ، وفي قسم الـموسيقى محمد وردي، وأنس العاقب، وعثمان مصطفى، وفي إفادة من صلاح الدين الفاضل المخرج الإذاعي يقول إن الدوش قد كتب الـمقطع الأول لأغنية (عصافير الخريف) على السبورة (.. ليه يا عصافير الخريف) ثـم قام الحلنقي وتم القصيدة على السبورة.. ثم سافر إلى بلغاريا لمواصلة دراسة المسرح.
يظل الدوش شاعر الدهشة والفضاء الرحب، فالقصيدة عنده فضاء مسرحي فسيح يعرض فيه كل حياة المجتمع بكل تفاصيلها الدقيقة، وانتقل بالأغنية السودانية نقلة خالفت المألوف والمعتاد كغيره من الشعراء كثر ولكنه كان متفرداً بتراكيب ومفاهيم جديدة في سياق همه بالارتقاء بالكلمة الغنائية وتحديداً في أغنية (الحزن القديم .. والود . وبناديها والساقية. وسعاد).. وغيرها من الأشعار والأغنيات التي التصقت بوجدان المتلقي السوداني..
“بناديها”
الدوش وضعنا في اطار خاص به وخرج عن المألوف في الترجي والإستعطاف لأنه عبقري أختار مفردة ذات دلالة عميقة (بناديها) وزاد من عمق الكلمات ومعانيها ألحان وعبقرية العملاق محمد وردي الذي جسد إحساس الدوش.
“بناديها واعزم كل زول يرتاح على ضحكة عيونا فيها
ولما تغيب عن الميعاد
بفتش ليها في التاريخ
وأسأل عنها الأجداد
وأسأل عنها المستقبل
اللسه سنينو بعاد
بفتش ليها في اللوحات
محل الخاطر الماعاد
وفي الأعياد
وفي أحزان عيون الناس
وفي الضل الوقف
مازاد…. !!
وعبقرية الدوش تتجلي في أخيتار مفردة “اعزم” فهي مفردة خاصة به لم يسبق ان كتب شاعراً مفردة “اعزم” وهي كلمة دارجية سودانية بمعني “أدعو” والدعوة هنا ليس على مائدة أو مناسبة بل الدوش دعاهم ليرتاحوا على “ضحكة عيون فيها” وتلك عبقريته.. وفي ذات المقطع نجد أن الأكثر عمقا في اختياره عبارة “الضل الوقف مازاد”، تلك عبقرية الرسم بالكلمات.
بلد رايح
الدوش أحد أعمدة التجديد الغنائي في السودان، وهو من أميز شعراء جيله كما أسلفنا فهو أتى بعد حقبة الحقيبة والرواد، حيث ظهرت المدرسة النضالية في الشعر الرمزي وكان الدوش أحد هولاء العمالقة أمثال حميد والقدال وعاطف خيري وأزهري محمد علي، وكتب الرمزي مثل أغنية ” الساقية” والتي غناها الفنان حمد الريح، رغم انه كتب الشعر المباشر مثل أغنية “بلد رايح” التي غناها الموسيقار محمد وردي ويقول مطلعها:-
حأسأل عن بلد رايح وافتش عن بلد سايح
واسأل عن امانينا اللي ما بتدينا صوت صايح
وأسأل وين مخابينا إذا جانا الزمن ..لا فح
واسأل عن بلد مجروح وعارف الجارحو ليه جارح
وابكى على بلد ممدوح وعارف المادحو ما مادح
واحلم بي حلم مسروق لا هو الليلة لا امبارح
أعلق في سفري خطابات لي زمن فجري
وادخل من درب سري لكل مضاجع الأحزان
واضفِّر من شجر بلدي بروقاً مارقة من صدري
وهو يكتب تلك الكلمات في زمان غير زماننا لكنه يصور واقعنا اليوم وكانه يتنبأ بما آل اليه حال البلد بعد رحيله بربع قرن من الزمان:
واصرَخ ! ياوطن! يا بيتنا ليه ما تبقى لينا الساس
قدر ما تجري فيك أفكار يزيدوا الحبس والحراس
قدر ما تجري فيك الخيل تدوس الهيبة والإحساس
واسأل يا وطن رايح
اذا كل القبور دخلت بيوت الناس
بلا اسئذان بلا صلوات بلا أكفان
جريمة اسائل الدفَان؟
جريمة طلب تمن قبري
من البايع في أي مكان؟
واقولك يا وطن رايح واقولك يا وطن آمر
سلام النفس ما كافر ولا كافر ولا كافر
“سحابات الهموم”
ويحكي الشاعر يحي فضل الله عن صديقه ورفيق أيامه الدوش وعن ميلاد قصيدة “سحابات الهموم” في صيف أمدرماني وليل له مع النسائم والقمر الإبتهاج ، صيف 1986م ، في حي بانت حيث كنت أسكن و معي الاصدقاء السماني لوال و عبد الله حسب الرسول و كان الصديق الشاعر الراحل المقيم عمر الطيب الدوش ضيفنا الدائم ، في تلك الليلة القمراء كان عمر الدوش يتألف مع إنفلاته حين داهمته القصيدة ، كنا خارج المنزل و في طريقنا اليه و في ميدان بانت جلس عمر الدوش بالقرب من تلة رمل علي طرف سوق بانت أمام أحد الدكاكين التي كانت تحت الصيانة ، جلس عمرالدوش منتميا الى ضوء القمر الساطع و باصابعه بدأ يمسح على الارض كتلاميذ الاولية وليس الابتدائية حين يتعلمون كتابة الحروف على الرمل و باصابع مرتعشة كتب عمر الدوش :
“سحابات الهموم يا ليل
بكن
بين السكات و القول ”
ومازال الحديث للشاعر يحي فضل الله: لم املك انا إلا إرتعاشي الحميم تجاه هذه المدخل الشعري النقي والصافي و من حسن الحظ ان جيوبي لاتعدم الورقة و القلم فها هو عمر الدوش يكتب باصابعه على الرمل و انا انقل ما يكتبه على الورقة المزحومة بكتابات اخري غير مترابطة:
“وباقات النجوم الجن
يعزن
في المطر
فاتن عزاك رجعن”
يتدفق الشعر على ذلك الرمل و ان الاحق الكلمات قبل ان تمسحها كف عمر الدوش بتلقائية غريبة كي ينتقل اصبعه السبابة المرتعش بفعل هذا الثقل الجمالي الحميم الى دفقة اخرى من الشعر
” وشوق رؤياك
رزاز صفق
على خطوة بنات
سجعن”
وأغنية سحابات الهموم اداء الراحل مصطفي سيد أحمد كأجمل ما يكون الاداء.
الحزن القديم
الدوش يكتب بدهشة وتشعر أنه يرسم دهشته في الكلمات ويصورلك تلك الحالة، في اغنية الحزن القديم يقول :-
بتطلعي إنتي من غابات ومن وديان
ومني أنا
ومن صحية جروف النيل مع الموجة الصباحية
ومن شهقة زهور عطشانة فوق أحزانا متكية
بتطلعي إنتي من صوت طفلة وسط اللمة منسية “.
صور ومشاهد يرسمها الدوش تحيلك إلى مسرحه الخاص للتتخيل محبوبته بين الجروف والنيل وريحة الطين وصحوة الزهور .. تلك الصور للطفلة التي تتدثر ثوب أمها وهي تحاول أن تخرج رأسها وسط اللمة لترغب حدث ما مشهد درامي كامل.
سعاد
عمر الطيب الدوش له عوالم مهما تبحرنا فيها لن نسبر أغوارها ولنا في
أغنية “سعاد” نموزج اخر لكتابات الدوش والتي أمتزجت فيها الشاعرية والكتابة المسرحية فهي نتاج لخيال الشاعر والمسرحي، وأبدع في أدائها الفنان عبد الكريم الكابلي، واكثر المشاهد تعمقاً في القصيدة :
” وكتين اشوفك ببقى زول
فرشولو فرش الموت
وعاش”
والمشاهد المسرحية في الأغنية تبدأ من أزاحة الستار :
دقت الدلوكة
قُلنا الدنيا ما زالت بخير
اهو ناس تعرس
وتنبسط
تككت فى الراكوبة
بالحنقوقة سروالى
الطويل
سويتلو رقعات فى
الوسط
فى خشمى ختيت
القميص
اجرى وأزبد شوق وانط
لا من دخلت الحفلة
فجيت الخلوق
وركزت
شان البت سُعاد
وأغنية سعاد أحد الأغنيات النضالية التي جسد فيها الدوش صور نضالية لعسف العسكر وتسلط الأدارات الأهلية وتبعيتهم للحكام وفي هذا المقطع يجسد ذلك التسلط:
وحلمت زى شالنى ومشى
فوق زحمة نبى الله الخضر
صحانى صوت العمده قال مسؤل كبير زائر البلد
قال لينا
وكت الزول يجى لازم تقيفوا صفوف صفوف
وتهيجو الخلا بالكفوف
وتقولوا عاش يحيا البطل
صلحت طاقيتى الحرير
واتنحنح الحشا بالكلام
ورميتو من حلقي الوصل
قت ليه ياعمده اختشى
مسؤل كبير فى الدنيا غير الله انعدم