
بعض الحكايات
حروف مبعثرة| خضر مسعود
“بلادي وإن جارت عليّ عزيزة .. وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام.”
ما إن تخرج خارج حدود السودان، حتى تكتشف أنه يسكنك، وليس أنت من يسكنه. هذه البلاد نعشق كل ما فيها، شمسها الحارقة وحتى “الكتاحة”، فهي لا تنفصل عنا أينما توجهنا. كل شيء فيها مختلف.
أذكر مرة، تحركنا مجموعة من الأصدقاء إلى وسط البلد في قاهرة المعز، من فيصل، وكعادة أي مسافر، تتابع حركة المركبات من النافذة. إحدى الحافلات الصغيرة كانت تحمل لافتة أمام السائق كتب عليها (فيصل – جيزة)، لكن لارتباطنا العميق بالسودان، قرأناها (جبرة)، وبدأ كلٌّ منا يقنع الآخر أنها “جيزة” وليست “جبرة”، لكن عقولنا المعلقة بالوطن أصرت على أنها جبرة! وجبرة، كما نعلم، بليلٍ بجيها، وباكر ضوّى.
مرَبّي غنم
الحبيب الشقيق، علي محمد علي، الشهير بـ”الدالي”، صحفي نشط ومراسل بارع، وفوق ذلك، نقابيٌّ فذ. نحبه لما فيه من نقاء وجمال روح، وهو يحتفظ بلكنته الشايقية المحببة.
في إحدى الورش التدريبية ببورتسودان، كان الدالي حاضرًا، وكان الأستاذ خالد سعد هو المدرب. وفي كل مرة يعرّف فيها نفسه، كان يذكر أنه جاء من قرية حزيمة بالولاية الشمالية، وهو أيضًا شايقي. أحد الحضور، ظريف الورشة، سأل بعفوية:
“أستاذ خالد شايقي وجاي من قرية، لكن ما ظاهر عليه!”
أما الدالي، المقيم ببورتسودان، ومراسلٌ لإحدى كبرى القنوات الخارجية، فكان يحتفظ بلهجته الأصيلة. جاءت الإجابة ساخرة ومفاجئة: “خالد متربي في الصحافة، والدالي مربى غنم!” انفجرت القاعة بالضحك، ويظل الدالي، الوطني الغيور رجلاً من طراز فريد، وعندما حضر مؤخراً للقاهرة فتن بها، وتمنى أن يكون للخرطوم مترو كما لها، ويتمنى ويتمنى… ولو كان التمني!
في الحنين
“طال بيه الحنين.. فاض بيه الشجن.. واقف يردد.. من زمن.. بالله يا الطير المهاجر للوطن.”
كلما طالت بنا الأيام في الغربة، ازداد الحنين، وأصبحت أفئدتنا كفؤاد أم موسى، خاوية إلا من حب السودان، وجلسات شارع النيل، وشجرة “فاطمة”، والقهوة سكر خفيف، والأنس اللطيف. يصبح الشوق جسرًا لإيصال تلك المشاعر، وتتحول بعض الأغنيات إلى زاد للمهاجر، أما الطير المهاجر، فله مفعول السحر، إذ يدغدغ الوجدان، فينفجر الدمع ساخنًا. وهناك أغنيات لا نستطيع حتى الاستماع إليها دون أن يختنق الصوت، ولا أدري كيف تعلقت أذناي بأغنيتين للأستاذ الهادي حامد “ود الجبل”: المدنية” “فتشتا عنها في القرى النائية البعيدة.. سألتا في بلاد ومدن عديدة..
أبحرتا في كل الموانئ، أكوس عليها.” لكن لا مدينة تشبه أم درمان، ولا نيل يشبه صفحة النيل حين تلمع في الظلام. و”أفتقدتك” ، كل تلك الأغنيات، وغيرها، تفتك بنا كلما طالت الأيام، وزاد البعد، وزاد الشوق.
حروف أخيرة
“افتقدتك..”
يا صبا عمري وشبابي،
افتقدتك.. لما زاد الشوق عذابي،
افتقدتك.. في أساي واغترابي،
افتقدتك..
افتقدت الابتسامة،
والعيون الساحرة يوم يسحر كلامها.