شخصيات ضد النسيان … شلال التاريخ المنسي حسن نجيلة

كتب : صلاح عبد الحفيظ

المعرّف لا يُعرف، يزخر السودان بشخصيات قدّمت ما لم يخطر على بال معاصري أحداث تعتبر الأهم في تاريخنا. أحدهم بلا شك هو العملاق حسن نجيلة، الذي ظل وسيظل أهم وثائقي السودان في العقود الأولى منه كتابةً وبحثًا وتقصّيًا لأحداث كاد النسيان يطويها للأبد.
بمدينة سنجة وفي العام 1907 كان ميلاده الذي ملأ السودان كتابات ثرّة، بسنجة الأولية كانت دراسته، ومنها إلى كلية غردون التذكارية التي كانت تستقبل في تلك السنوات المبرزين في 46 طالبًا فقط.
التعليم كتخصص مهني، بقسم العرفاء، وهو القسم الذي يعني بتخريج المعلمين. كانت دراسته، فتخرج منها في العام 1929، وهو نفس العام الذي عمل فيه معلمًا بمدرسة سنجة الأولية.
حين افتتاح معهد التربية بخت الرضا في العام 1938، كانت دراسته المتقدمة التي أهلته للعمل معلمًا للمعلمين بنفس المعهد.
لحاجته إلى العمل في أول تجربة في السودان لتدريس الطلاب الرحّل مع أسرهم في الفيافي والصحراء بحثًا عن الغذاء لأنعامهم، في منطقة بادية الكبابيش بكردفان، كانت تلك التجربة التي نجحت نجاحات متعددة. فمن تدريس الطلاب في تلك الفيافي إلى تعميم التجربة في مناطق أخرى، إلى تأسيس قسم تعليم الرحّل، وهو القسم الذي ما زال حتى الآن يواصل عمله بفضل تجربته الأولى التي قام بها في العام 1941 حتى العام 1952.
العمل بالعاصمة معلمًا وإداريًا تربويًا.
تنقل الأسطورة حسن نجيلة في مواقع تعليمية عديدة، فمن معلم بالمدارس داخل المدن إلى مؤسس لتعليم الرحّل بتلك التجربة التي أنف الذكر، مرورًا بإدارة تعليم مديرية الخرطوم، وقبلها مديرًا لمدارس عديدة كان أشهرها مدرسة الموردة الأولية بأمدرمان التي عمل فيها فترة طويلة.
ومن عجب، فقد كان أولياء أمور الطلاب يصرون على إلحاق أبنائهم بالمدارس التي يعمل بها لاقتناعهم بتميز أبنائهم سلوكًا وتحصيلًا أكاديميًا.
في جانب حياته تبرز حالة المتابعة الدقيقة لأي معلومة تخص السودان في كل مراحل سنواته، فكانت فترة الاستعمار البريطاني من اهتماماته الأولى، وهو السبب الرئيسي الذي جعله يسعى لمقابلة الأحياء من صناع وأبطال ثورة 1924، متابعًا وباحثًا عن شخصيات ومحاكمات الأبطال وتفاصيل حياتهم، بل ملاحقًا المعلومات باليوم والشهر والسنة.

إبداعات الكتابة في مؤلفاته
ذكر في حوار إذاعي بالإذاعة السودانية في العام 1978 أنه كان يحمل كراسًا لكل شخصية يلتقي بها ويدوّن إفاداته حتى تكتمل لديه المعلومات.
ذكر كذلك معاصروه أنه كان يقضي الساعات الطوال في الكتابة والتلخيص للمعلومات حتى يخرج منها مقتنعًا بجودتها، وهو ما جعل الكتاب الأهم، الإيقونة الوثائقية التي ظلت مرجعًا وحيدًا لتاريخ ثورة 1924، يخرج بتلك الصورة من الجودة ومتانة السبك.
حين خرج كتابه الأول [ملامح من المجتمع السوداني] كان الجزء الثاني جاهزًا للطباعة في جهد وصفه الوثائقيون بأنه إعجاز لم يحدث في تاريخ السودان.
ظل هذا الكتاب بجزئيه مرجعًا لا غنى عنه لأي باحث أو كاتب يود الكتابة عن تاريخ ثورة 1924.

مؤلفات أخرى غاية في المتعة
لم يكتفِ بذلك الجهد، فكانت كل مجهودات قلمه لتسجيل الوقائع الحية لنا، راهنًا في حياته تسفارًا وعملاً ومقابلات للشخصيات التي يود كتابة معلومة عنها.
كتب نجيلة كتابه [ذكرياتي في البادية]، وهو كتاب به من وقائع حياة البادية وذكرياته في تجربة تعليم الرحّل ما جعله سياحة قلمية رائعة التفاصيل، زائدًا تعريفه لمنطقة ظلت بعيدة عن معرفة السودانيين لها، وهي بادية الكبابيش.
في كتابه [ذكرياتي في دار العروبة] تلخيص لرحلاته إلى بيروت وبغداد ودمشق وجدة ومكة والمدينة والقاهرة وتونس.
من مشتركات مؤلفاته تلك الحميمية البينة في توصيف الأزمنة والأمكنة والشخصيات، بل حتى الأحداث بتلك اللغة التي غلب عليها ممازجتها مع حميمتها وسهولتها في التناول.
خير مثال لذلك وصفه لجلسات الأدب والغناء التي كانت من طرف أعضاء جمعية اللواء الأبيض بدار فوز، ووصف المكان وطريقة جلوس خليل فرح أثناء الغناء، أو وصفه لحدث إعدام الضباط الأبطال من المشاركين في معركة مستشفى النهر التي استشهد فيها البطل عبد الفضيل الماظ. ففي هذه الجزئية، يقول أحد الأصدقاء [مصعب الصاوي] إن من يقرأ لحسن نجيلة كيفية إعدام الضباط الثوار ينتابه الإحساس بأنه شاهد عيان على لحظات تنفيذ الإعدام عليهم.
اشتهر وسط المعلمين والصحفيين بلقب [صاحب الجلباب الأبيض] وذلك لارتدائه الجلباب ناصع البياض أناقة ونظافة.
في كتابه [ذكرياتي في البادية] يلحظ القارئ محبته الواضحة لتلك الديار، ممازحًا نفسه باقتراب الزواج من إحدى حسان الكبابيش.

ذكرياتي في الاتحاد السوفيتي
أما زيارته للاتحاد السوفيتي فقد كانت ذات طعم خاص لما كتبه عن المسلمين في تلك الأرجاء.
منذ العام 1929 عام تخرجه من كلية غردون التذكارية وحتى أبريل من العام 1983، ظل كاتبًا وباحثًا عن السودان وأهله، وهو ما جعله يؤسس لملف الرأي العام الأسبوعي في العام 1967، وهو أول ملف منوعات ثقافية في تاريخ الصحافة السودانية. وهو كذلك ما جعله مرجعًا للقصائد العظام لشعراء الستينات مع كتابات العظام من كتاب المعرفة أمثال أحمد يونس مدير النقل الميكانيكي والفاتح التجاني ومصطفى سند وعبد الله حامد الأمين.
أصدر مجلة [القلم] التي كانت تنافس كبريات المجلات الثقافية العربية آنذاك.
بمجلة القلم نشر الدرر النادرة من قصائد الشعراء السودانيين والعرب، فكان مصطفى سند وصلاح أحمد إبراهيم ومحمد المهدي المجذوب، ومن العرب بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وعمر أبو ريشة.
يقول وثائقي نحرير من وثائقي الصحافة السودانية إن أطول فترة يقضيها كاتب سوداني في تاريخ الصحافة السودانية هو حسن نجيلة، إذ ظل 44 عامًا يكتب دون توقف، وذلك منذ أول مقال له بصحيفة الحضارة عام 1929 حتى العام 1983، عام رحيله.
يستحق العملاق حسن نجيلة أن يدرس في كل مراحل التعليم بالسودان إكرامًا ووفاءً لما كان منه لكل أهل السودان.

نقلاً عن صحيفة ألوان