الغُربة داخل الوطن

نضال طبيق

الغُربة ما دايمًا بتكون مسافات… أحيانًا، بتكون أقرب مما نتخيل، وأصعب مما نتحمل.

لما تكون قريب، لكن تحس إنك بعيد… لما تمشي في نفس الشوارع الإتربيت فيها، وتشوف الوجوه البتعرفها، تحت نفس السما الإتولدت فيها، لكن ما تحس بالانتماء — دي الغُربة الحقيقية… غُربة داخل الوطن.

الغُربة داخل الوطن ما بتحتاج جواز سفر، ولا ختم حدود. هي إحساس… زحف بطيء يتسلل ليك من غير ما تحس، لحد ما تلقى روحك واقف برا، وسط ناس المفروض يكونوا “أهلك”.

الغُربة دي لما تكون طالب عندك أفكار كبيرة، لكن ما في زول يسمعك… لما تكون مرأة عندك شغف تتعلم وتشتغل، لكن يُقال ليك: “مكانك في البيت”.

الغُربة ما بتتقاس بالكيلومترات، بتتقاس بالإحساس. وأكتر حاجة مؤلمة فيها، إنها بتفقدك الإحساس بالوطن، رغم إنك لسه واقف في قلبه.

لكن… رغم الألم، لسه في أمل.

نقدر نرجّع للوطن معناه، نقدر نخلق وطن داخل الوطن. وطن نحس فيه بالأمان، والانتماء، والدفء. نكسر الغُربة بكلمة طيبة، بيد ممدودة، بصدر يتسع للاختلاف. ننسج وطن من خيوط الرحمة والتفاهم والحب.

الغُربة داخل الوطن، هي فقد… فقد للتفاهم، فقد للأمان، فقد للصدق، فقد للروح.

لكن الأمل باقٍ… باقٍ إننا نزرع الحب من جديد، ونرجّع للوطن صوته ووجهه وقلبه. عشان ما نكون حاضرين بأجسادنا، غايبين بأرواحنا.

الغُربة داخل الوطن… هي أقسى أنواع الغُربة.

في ظل ما تعيشه بلادنا السودان من حرب طاحنة وتمزق داخلي، أصبحت مشاعر الغُربة لا تحتاج إلى سفر أو منفى… بل بات كثير من السودانيين يشعرون بها وهم بين أهلهم، وفي شوارع مدنهم وقراهم، وتحت سماوات طالما ظنوها مأوى وسند. الحرب لم تُفرّق فقط بين الجغرافيا والناس، بل زرعت بين القلوب حواجز من الخوف والخذلان، وشعورًا متزايدًا بالوحدة والاغتراب حتى داخل البيت الواحد.

مع كل صوت قذيفة، وكل مشهد دمار، وكل قصة نزوح، تفقد الكلمات دفئها، وتفقد البيوت معناها، ويصبح الانتماء نفسه موضع تساؤل. في هذه اللحظة، تصبح الغُربة داخل الوطن واقعًا معاشًا، لا مجرد تعبير أدبي.