
الاستهداف الممنهج للبنية التحتية
كتبت: نضال طبيق
منذ بداية الحرب في السودان في أبريل 2023، اتضح جلياً أن هدف ميليشيا الدعم السريع لم يكن الوصول إلى السلطة أو مواجهة القوات النظامية فحسب، بل كان المواطن السوداني البسيط هو الهدف الأساسي، فقد تركز الاستهداف على حياته ومعيشته اليومية. تحوّل التضييق والقتل والتشريد إلى سياسة ممنهجة تُمارَس بشكل متعمد لتدمير صموده واستهدافه نفسياً وجسدياً، مما يكشف عن استراتيجية أكثر خطورة من مجرد نزاع مسلح بين قوتين.
وفي الحروب، من الطبيعي أن تحدث أضرار جانبية، إلا أن ما جرى في السودان تجاوز هذا المفهوم، فالحياة اليومية للمواطن السوداني أصبحت هدفاً مباشراً، ولم يعد قادراً على العيش بكرامة أو توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية لأسرته. ويتجلى هذا التهديد في صورته الأوضح من خلال الاستهداف المتكرر والمقصود للبنية التحتية في المدن الآمنة التي لم تطلها المعارك بشكل مباشر، وعلى رأس هذه المرافق الحيوية تأتي الكهرباء، والتي يؤدي انقطاعها إلى فقدان المياه أيضاً، في رسالة واضحة تحمل مضموناً قاسياً: “لن تعيش في سلام ما لم تخضع.”
الكهرباء ليست مجرد خدمة، بل هي شريان الحياة اليومية، تعتمد عليها المستشفيات في تشغيل الأجهزة الطبية، والأسواق والمتاجر في حفظ المواد الغذائية، والمواطنون في التواصل وإنجاز أعمالهم. ولذلك فإن استهدافها هو تعطيل للحياة وشلٌ للمدن وخنقٌ للمجتمع. عمدت ميليشيا الدعم السريع إلى تنفيذ هذا الاستهداف في عدة ولايات سودانية، وتنوعت الأساليب المستخدمة في ذلك بين القذف المباشر لمحطات التحويل الكهربائي مما أدى إلى خروجها عن الخدمة، واحتلال مقار شركات الكهرباء وتعطيل عمليات الصيانة، ونهب الأسلاك والمحولات وبيعها أو تخزينها.
هذا الاستهداف أدى إلى كارثة إنسانية شاملة، حيث أثرت تبعاته على حياة المواطنين في مختلف أنحاء البلاد، وتحوّلت الكهرباء إلى سلاح موجه ضد المدنيين، الذين ظلوا رغم الألم متمسكين بالصبر واليقين، صامدين أمام هذا الضغط الهائل، مؤمنين بأن الحق سينتصر وأن الظلم لن يدوم.
ومنذ اندلاعها، دخل السودان في واحدة من أعقد وأطول المواجهات المسلحة في تاريخه الحديث، حيث لم تعد الحرب محصورة في جبهات القتال التقليدية، بل امتدت إلى قلب الأحياء السكنية، ومراكز الخدمات، ومقومات الحياة الأساسية. هذه الحرب تميزت بتوظيف أدواتها ضد المدنيين بشكل غير مسبوق، إذ لم تكن الخسائر في البنية التحتية عرضية أو غير مقصودة، بل بدت وكأنها جزء من استراتيجية ممنهجة تستهدف كسر المجتمع المدني وشل قدرته على المقاومة.
الكهرباء، كمثال، لم تعد مجرد خدمة، بل أصبحت هدفاً مقصوداً. وضربها لا يعني فقط انقطاع الضوء، بل يمثل اختناقاً متعمداً للحياة. تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، وشهادات شهود عيان، كلها تشير إلى أن المدنيين أصبحوا ضحايا لحرب تُدار على حسابهم وبأدوات تستهدف وجودهم نفسه، فيما تتهاوى الخدمات العامة وتُحاصر المساعدات الإنسانية وسط استمرار المعارك.
وفي ظل هذا المشهد، تبرز تساؤلات جوهرية تتطلب إجابة: هل أصبحت السيطرة على الأرض تعني تحطيم كل ما عليها؟ وهل باتت كرامة المواطن وثباته العقبة الحقيقية أمام طموحات الأطراف المتحاربة؟ وهل الاستهداف المتعمد للبنية التحتية رسالة واضحة بأن الحياة لن تستمر إلا في ظل الخضوع الكامل؟
رغم كل ذلك، لا يزال المواطن السوداني صامداً، متشبثاً بكرامته، ومؤمناً بأن هذه المحنة ستزول، وأن ما يُبنى بالقهر لن يدوم، وأن النور سيعود إلى هذه الأرض، مهما طال أمد الظلام.