رحيل النوارس

حروف مبعثرة | خضر مسعود

في الركن الشرقي لميدان ملاعب كمبوني بالخرطوم، قبالة البوابة الرئيسية لصحيفة اليوم التالي، وعند قهوة حاجة زينب، حيث جلسة “المثقفين”، هناك منتدى بلا عنوان، يطرح كل الموضوعات السياسية والفكرية والثقافية وحتى المسكوت عنه من حياة الناس.

رواد هذا المنتدى هم مثقفون وفنانون وأساتذة جامعات وكتّاب وروائيون وشعراء، ومن عامة الناس. في وسط الجالسين، كان الراحل الطيب أحمد الطيب بابتسامة وديعة وتهذيب منقطع النظير، ذلك الطيب الذي انسرب من بين أيدينا غدرًا، أمام منزله وسط أهله وأبنائه، برصاص الغدر الذي أطلقته آفة العصر: مليشيات الدعم السريع بالحاج يوسف. لم يكن القاتل يعلم من هو الطيب، ولا من يصوب عليه، ولا أي عقل ستطفئ شعلته، فمن صوب بلا شك بلا عقل! فجعنا بنبأ الرحيل المر، ولو علم القاتل أن الذي أمامه من أصدق وأنبل بني السودان، ومن محبي الوحدة والممقتين للقتل المجاني، لما ضغط الزناد.

كان الأستاذ الطيب قارئًا نهمًا، لا تناقشه في كتاب إلا وتجده قد اطلع عليه قبلك. وفي فهم العلائق بين دولتي وادي النيل، كان من أشد المدافعين عن الاتحاد بينهما، ورأيه في ذلك ثابت: لا يمكن للسودان العيش في سلام دون مصر، والعكس صحيح. كان يرى أن التمازج الشعبوي بين البلدين سيدفع السياسيين يومًا ما إلى التوحد، لأن الأواصر التي تربط الشعبين أكبر من أي روابط أخرى، وأولها نهر النيل العظيم.

رحل الطيب دون أن يرى كيف احتضن أبناء النيل في مصر إخوانهم السودانيين عقب هذه الحرب العبثية. تمسّك بالبقاء في منزله بالحاج يوسف، رافضًا كل الدعوات التي وجهها له الأصدقاء للمغادرة، لكن ذلك الارتباط كان ثمنه روحه التي صعدت إلى بارئها. رحم الله الطيب.

في ذات اليوم الذي رحل فيه الطيب، جاءنا الناعي ينعي الأستاذ القاص والروائي محمد خير عبد الله، رئيس نادي القصة السوداني، الذي توفي متأثرًا بإصابته بوباء الكوليرا في ولاية النيل الأبيض، مسقط رأسه الذي أعادته إليه الحرب اللعينة.

محمد خير، الرجل اللطيف خفيف الظل، عرفته منذ عشرين عامًا، لا يحمل ضغينة على أحد رغم ما قاساه في حياته، منذ أن طُرد من وظيفته عام 1990، حين أُحيل للصالح العام، وكان آنذاك مديرًا للإعلام بوزارة الزراعة والثروة الحيوانية. عاد محمد خير إلى الصحافة، وعمل في عدد من الصحف كاتبًا للرأي ومحررًا ثقافيًا. أسس مع عدد من الكتّاب السودانيين نادي القصة السوداني، وترأسه لدورات عديدة، ثم أتاح الفرصة للكتّاب الشباب في الدورة الأخيرة.

كان محمد خير يسخر من كل شيء، حتى من نفسه وسكنه، وكان يردد دائمًا: “الأشراف يسكنون الأطراف”، ساخرًا من إقامته في أطراف مدينة أم درمان. كان يؤمن يقينًا بأن الله لن يتركه هكذا. بيننا دارت سجالات طويلة حول الرواية والقصة، وكم تناقشنا حول كتاباته، خاصة روايته “سيرة قذرة”، التي أبدع في حبكتها واختيار شخصياتها. كنت أمازحه بأن من يريد قراءة تلك الرواية، عليه أن يحضر “كيس ليمون” قبل الشروع في القراءة!

رحل محمد خير، تاركًا إرثًا ثقافيًا وأدبيًا في أكثر من 12 رواية، وكتابه المتفرّد “أيام مع أبو ذر”، الذي تحدث فيه عن حياته مع صديق عمره الشاعر المفقود أبو ذر الغفاري، صاحب قصيدة “في عيونك” التي غناها الفنان مصطفى سيد أحمد.

رحم الله الأستاذين الطيب ومحمد خير، وجعل مثواهما الجنة.